على مشارف الرّحيل

السبت، 5 يوليو 2008

كان الصّباح على غير عادته في هذا الشّهر , مُسفراً عن وجه السّماء كأنّه لا يغار عليها من نظرات البشر !

كان مشرقاً رغم البرد القارس

أمّا هو , كان على يقين أن الشّمسَ ستشرقُ بعد ساعةٍ من الآن

و أنّ ثغرَ الظّلام سيبتسمُ عن صبحٍ جديد جعلهُ الله معاشا

وكان اليقين الأكبر الذي سكنه حينها ..... أنّهُ لن يرى المكانَ مرّةً أخرى !

أنّ الذّكريات و أنوارَ الهناء أزمعت الرّحيل , وأنّ القمرَ ناجاهُ تلك الليلة مودّعاً إيّاهُ إلى ما شاء الله .

أمّا أنا , نعم رأيتُه تلك الليلة ....

كانت غرفتهُ مُضاءةً حتّى الفجر

لا تسألوني ما الذي حرم عينيه الدّامعتين من النّوم !

كلّ ما أجيد سردهُ لكم أن لم ينم , و أنّهُ في قرارة نفسهِ تمنّى لو ينامُ إلى الأبد !



أسفرَ الصَّباح , وماز الخيطُ الأبيضُ أخاهُ الأسود


وركضتْ أصواتُ المؤذّنينَ فوق سلالم الأفق , تبعثرُ في جنباتها " الصّلاةُ خيرٌ من النّوم " .


"" النّوم !!


نعم , سمعتُ هذا الاسمَ من قبل


بل و ذقتُهُ سنين حسبتهُ فيها سُفرةً للراحة , لا يشبع المرء راحةً إلا من أطباقها ! ""


ثم انتهى الأذان


وعادتْ ذرّاتُ الهواء ترمّمُ الصّدع الذي أحدثهُ الأذانُ فيها .


تُعالج الجرحى , وتدفُنُ في لوعةٍ موتاها !


كان هو كذلك يعالج جراحه , و في ذات لوعة أولئك يدفن الدّموع في مقابر خدوده .


"" رباهُ رحمتك


جراحٌ وموتى يا مولاي


لكن , لماذا ؟ ""


وأرخى مرّة أخرى ستار حسرتهِ على تلك الجراح .


و أرخى معها ستائر غرفته الزّرقاء , و حمل الحقيبة !


سار في منزله غريباً , تراهُ الأشياء فتنكمشُ أنفاسها خوفاً


وتراهُ اللا أشياء فتنكمشُ


و يرى نفسهُ .... أيضاً حين يراها ينكمش !


ألقى على " الصّالة " نظرةً حملتْ بين رموشها حنان الكون وقالتْ : هل من مزيد ؟!


أشاح بوجهه خجلاً وهو يهبط الدرجات




كانت روحه تتعثّرُ كلما هبط درجة فيلتقطُها و قد زادتْ فيها الجراح

مرّة يلملمُ روحهُ و أخرى يحمل فؤاده

وفي كلّ مرةٍ تغُورُ فيهما الآلام لتمتصَّ بقايا الهناء فيهما !

ولتُبرهنَ له - بمنطق الجبروت - أن الأمرَ لا محالةَ مقضيّ .

وقف على تلك الدرجات ليلتفتَ إلى الوراء

و عادَ يخطُو , لكن إلى أعلى هذه المرّة !

و أنا .... كأنتُم تماماً في تلك اللحظة

ظننتُ الزّمانَ استدارَ و أعلن التّمرُّد

سمعتُ - و أكادُ أقسمُ - في عزف خطواتِهِ سيمفونيّةً ارتجفتْ لها كلّ الأماكن

عاد مرّة أخرى إلى تلك الصّالة يسقيها نبع الحنانَ كُلّه

ثمّ سارَ حتّى توقّفَ هناك ...

أمام الباب الوحيد الذي لم و لا يوصد , باب الحنانِ و الدّفءِ الواسع .

يُلقي نظراتِهِ - رغم الظّلام - على الوجه الحبيب

ركضتْ في تلك الغرفةِ رموشُهُ تُقبّلُ أمّهُ النّائمة

كان واقفاً عند الباب , يتقدّمُ خطوةً ثم يعود مرّة أخرى متخلّفاً

يُواري عن نبض الفؤاد من الحسرات بحاراً وأكوانا .

"" أمّي , هو الوداع يا أمّي !

كلّ آمال الحياة أراها الآن املاً واحداً

أملاً يتيماً يرتجفُ !

نعم يا أمي يرتجف

فهو الآخر يمثُل أمام محكمةٍ حكمت عليه بالموت !

ونُفّذ الأمر يا أمي , كاتِبينَ على قبره " حُلمي أن أضمّك الآن يا أمّي "

أمي ...

مات أملي الذي رجوتُ فيه كلّ الآمال ! ""

لم تنفعهُ حينها إلا كفـُّه يلملمُ فيها حفنةً من دموعه

ثم يضعُها مع بقايا رحيق الشّوق على باب الغرفة

ويوصيها بهمس : "" هلّا بلّغتم أمي سلامي ؟! ""





عادَ مرّة أخرى لقدره , يهبطُ السّلالم


واستوقفهُ الطابقُ الثّاني , فأخذ ينظرُ ويذكرُ أخواته الصّغيرات


ويسرحُ بخياله على هضاب الذّكريات , يُطعمها عشبَ الضّحكات و يسقيها من نبع الأخوّة .


و عاد يعلنُ للقدر استسلامهُ أخرى , فتابعَ نزول الدّرجات حتى وصل الشّارع


سار لا يسمعُ الكونُ إلا نُواح خطواته الباردة


كانت تنوحُ ترجوه أن يعود ....


ترجوهُ و ترجوه


لكنّ قسوة الحُكم أصمّهُ حتى عن سماع أنفاسه !


و رأى بين شوارع المدينة طفلاً يُداعبُ الأرصفَةَ و الجدران


يحملُ في يده كتاباً و على ظهره حقيبةَ الدّراسة


لم يتمالك نفسه حين ابتسم له


ولم يتمالك قلبُهُ نفسه من الصّياح تحت اعتصار كُلّابة الذّكريات له


كان سراباً رغم كلّ شيء


سراباً رأى فيه طفولتهُ البريئة - وربما - النّادرة !


ويرى خلف السّراب جيشاً يتوعّد بالكثير إن تأخّر عن الرّحيل !


كلّ سهامهم براها الحقد و الحسد


جعلوا رؤوسها الوفاء الذي أكنَّه لهم يوماً , حتى يكون - إن جاز التّعبير - شهيدَ الوفاء !


سارتْ به الخطواتُ بين الشّوارع حتّى شارفَ على تلك التّلة الصّغيرة ...

وقف هناك لحظات يردّد :

"" " إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله , و أعلمُ من الله ما لا تعلمون " ""

و التفت يميناً يُريدُ رؤية عروسه الصّغيرةَ هُناك !

رأى فيها كلّ براكين الكون تلتهب ثمّ تفورُ تفور

تُحرقُ وجهها الذي رعاهُ و سقاهُ سعادةَ القلب كيما يبستم ...

و كان هو الآخرُ يحترق

و يرمي - دون إرادة - حممَ الأسى في كلّ ساح !

رمقها بعين تخشى الوداع - و إن كانت تُمارسُهُ تلك اللّحظات - وقال لها :

"" سُكينةُ ما لقلبي في احتراقِ ؟!

وما للدّمع لا ينوي فراقي ؟!

وما للحزن أضحى فيّ جزءاً

يُلازمني يُبالغُ في عناقي ؟! ""

حينها رأيتُ الحديقة ترتمي وتفيضُ منها العبرات

بالله ... أرأيتُم يوماً أرضاً تبكي وتنتحب ؟!

كنتُ أظنّ " شهرزاد " تُجيدُ اختلاقَ الحكايا لسيّدها

حتى رأيت ما لو رآه سيّدها لاستغنى عن نديمته الحسناء

كان الموقفُ - في وصفي - حكايةٌ تسرُدُها خيوط الشّمس - التي بدأت تتسلّلُ - ألف عامٍ و عام دون أن تنتهي !




رمقتُهُ يُديرُ وجههُ و يخطو

تاركاً على تلك التّلال وشاحَ الحبّ تتنازعُهُ الريّاح

كلّ ريح تريده لها !

فتارةً أراه يروح يميناً و أخرى يطير ناح الشّمال .

بعد قليل رأيتُ الشّمس تبتسمُ كيما تلتقي به - كعادتها - في أحلى الصّور !

لكّنها ما لبثتْ أن رأتهُ حتّى فَتَرَتْ حرارتُها

و عادَ الصّباح تزأر برودتُه و تفترسُ كلّ مكان !

مدّت تلك أشّعتها تمسحُ عن عينيه بعض الدّموع

وتمسحُ بعضاً آخر و آخر ...

غيرَ أنّها أيقنّت أن حرارتها عاجزةُ أمام الدّمع الذي هاجرَ تلك الدّيار !

رأيتُ الدّمع على خدوده كالشُّعَراء !

وقفْنَ على مشارف مآقيه كأنها الأطلال يغزلنَ فيها القصائد ...

وتنظُرُ إليها بكل معنىً حواه التّاريخ لليأس

كأنّها هي الأخرى أيقنَتْ أن عينيه لن تبتسما بعد اليوم !

مرّ من هُنا يودّعُ

و مرّ من هناك - أيضاً - يودِّع

راسماً على صفحةِ الوفاء عروساً تُغري كلّ من يُفكّر يوماً أن يخون الذّكريات والوفاء ...

و تاركاً مع كلّ طيرٍ رآه رسالةً يحملُها بين خافقيه

كيما يوصلها إلى كلّ ذرةٍ لامسها يوماً ما

يعتذرُ فيها مسبقاً عن رحلة هجرٍ قد تطول !

كان يقول " قد تطول " و في قرارة نفسه يقينٌ أنها ستطول .

يقينٌ أن قلبَ أمّه الآن - و إن كانتْ نائمة - يبحثُ عنه هُنا و هناك ...

أنّ ريحانتهُ على شرفته قد أفاقت تنتظر إفطارها ...

أن الصّغيرات ينتظرن قبلة الصّباح ...

أن المكان ينادي ...

أنّ القلبَ يُنادي ...

أنّ الدّمع يُنادي ...

أن الصّخر يبكي و ينادي ...


أنّ الكون يُنادي .... لماااذا ؟؟!!!



لماذا ؟!




تمّت .

14 . 5 . 2008

2 التعليقات:

غير معرف يقول...

لك قلمٌ آسر!!
تنتقل بين الأفكار برشاقة من عاش حميمية مع هضاب القلم وسهوله!

استمعت هنا كثيرا أيها المبجل!

صعبة المنال
من وحي القلم^_^

غير معرف يقول...

أخبرني بربّك أي قلم تملك؟!

(ما شاء الله)

الارتشاف من شذى بستانك مغرٍ

سأكمل الارتشاف، فلا أظنني شبعت بعد!


بارك الله فيك ويراعك أخي : )

آلاء (طنطاوية)

 
almaidany - by Templates para novo blogger 2007